لم ترد أن تُعرف أو تكتب عن نفسها أي شيء حتى أنها كانت تتعمد ألا تنظر في المرآة عند خروجها كل صباح كي تنسى من تكون ، ولكنها كانت تفاجأ دائما - وبشكل صار مملا بعد ذلك - في كل طريق تسير فيه أن أعمدة النور و الأشجار و العابرين يتكلمون عنها ويكتبون إليها و أن الريح تبطيء المسير إذا مرت حولها ، وأن الذباب يحترق إن اقترب منها ، غير أنني لم أكن أحب السير مسرعا كالريح كما لم أكن ذبابة ، لذا فلم أجد يوما مشكلة في القرب منها إلا عبورها لي كالهواء ، وكنت سعيدا حقا في البداية إذ كان لإحساس العبور الأول نشوة صوفية دفعتني إلى إطلاق الوعود العنترية بالتصرف كما يليق بأى ظل يحترم نفسه بأن أعرف ما أريد و بألا أكتب عنها بتاتا لكي لا تكرهني و يكرهني النيل الذي كان أكثر من فعلوا ذلك بطشا ، غير أن الموضوع تحول إلى أرق دائم لي فصرت أتحسس وجهي طول الليل وأطيل النظر في المرآة لأتأكد من الوجود المادي لأطرافي بعد أن لاحظت شفافيتي الزائدة أمامها ، حتى أنني قررت بعد ذلك أن أقول لها أحبك أو أحتضنها أو أقبلها أو أصفعها فمرت ذراعاي في الهواء الثقيل، ثم تطورت محاولاتي للتحقق من وجودي حين حاولت أن أنتحر مرارا لحظة مرورها خلالي في محاولة فاشلة لحبس جسدها في إطاري ، لكنني كنت كل مرة أموت ويمر جسدها من خلالي بسهولة تامة ، لأجد نفسي ملقى في شارع مكتظٍ بجثث رجال شفافين مثلي و أكثر
كنت أموت كثيرا وأعود لأراها من جديد فأقترف الوعود نفسها ، ثم أضبط نفسي متلبسا بالكلام عنها في الشوارع كأعمدة النور والأشجار والعابرين ، وبالكتابة إليها في رسائل حبي السرية التي ألقيتها كلها في النيل لكي لا ينتقم مني
مرت أعمار كثيرة منذ عرفتها ولم أعرف بعد ما أريد